مقدمة
إن المتأمل لفترات الطواعين التي أصابت الأرض في الأزمنة السابقة ، يعرف أن عمر الوباء لا يتجاوز خمسة أشهر
وقد كتب علماء الإسلام في الأوبئة ما تنوء بحمله الجِمال من الكتب ، وكان الكثير منهم شهوداً على فترات إستشرت فيها الأوبئة وقتلت أعداداً لا حصر لهامن الناس .. وكانت بشارتهم أن زمن الأوبئة لايتعدي خمسة أشهر
ومن أهم من كتب في هذا ، "المدائني" ، و"ابن أبي الدنيا" ، و""ابن قتيبة ، و"الحافظ بن حجر العسقلاني"
ومما قالوه أن الأوبئة كانت تقع في كل البلاد ، ولم يقع طاعون واحد في مكة أو المدينة المنورة في القرون الإسلامية الأولى.
وأن لكل وباء عمراً معدوداً محدداً لا يتجاوزه ، حتى وإن لم تكن هناك لقاحات ..وحين يبلغ الوباء نهاية عمره يتلاشى ويضمحل ويضعف تأثيره على الناس ، وتتغلب عليه مناعتهم ، لأن قوته تكون خمدت وضعفت
وقد أشار إلى ذلك داهية العرب "عمرو بن العاص" رضي الله عنه ، إذ يقول :
قال عمرو بن العاص في الطاعون :
( إن هذا رجز مثل السيل ، من تنكبه أخطأه ، ومثل النار من تنكبها أخطأها ، ومن أقام أحرقته فآذته) .
فسَيل الماء له وقت يجتاح فيه ، ثم ينتهي .. فمن لم يهلك في الاجتياح نجا
وقد أشار المؤرخون إلي إنّ أعظم الأوبئة والطواعين في تاريخ العرب هى :
كان أولها طاعون "عمَواس" ، كما ذكر ابن قتيبة في ( المعارف) ، وكان في الشام زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وفيه توفي أبو عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وابنه عبدالرحمن ، ويزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، والفضل بن العباس بن عبد المطلب ، وأكثر من عشرين ألفاً آخرين
(وعَمَواس) ، قرية بين الرملة وبيت المقدس
* ثم طاعون "الجارف" ،زمن عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه
* ثم "طاعون الفتيات" في شوال سنة سبع وثمانين من الهجرة ،
وسمي طاعون الفتيات لأنه بدأ بالعذارى والجواري بالبصرة وبواسط والكوفة والشام .
وكان يقال له أيضاً طاعون الأشراف لكثرة من مات فيه من الأشراف والأفاضل.
* ثم طاعون "عدي بن أرطأة" سنة مائة للهجرة
* ثم طاعون "عرّاب" ، سنة سبع وعشرين ومائة هجرية ، وعرّاب اسم رجل
* ثم طاعون "مسلم بن قتيبة" سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل أنه مات فيه في يوم واحد سبعون ألفا ، (قاله ابن الجوزي ).
وقد أشار أحد العلماء ، على الناس في أحد الأوبئة والطواعين ، بأن يشربوا ماء البنفسج ويدهنوا به ، فشفي منهم خلق كثير
وقد وقع في بعض النسخ من (الحلية) عن الشافعي رحمه الله :
"أحسن ما يداوى به الطاعون التسبيح" قيل ووجهه ، أن الذكر يرفع العقوبة والهلاك
قال الله تعالى (فلولا أنه كان من المسبحين) وعن كعب قال ( سبحان الله تمنع العذاب) .
إن السابق من مصاب الأقوام بالوباء عبر التاريخ ، يؤكد أن الوباء سيختفي من كل بلد أصابه في ظرف خمسة أشهر على الأكثر .
الطاعون بجرجا
بعد وفاة (محمد بك أبو الدهب) عام 1775م ، والذي حكم مصر ثلاث سنوات ، حدث صراع كبير بين المماليك علي حكم مصر
إلي أن استتب الأمر أن يتقاسم حكم مصر إبراهيم بك ، ومراد بك ولعله من المعروف عن "محمد بك أبو الدهب" أنه هو الذي جرد حملة عسكرية لمحاربة "شيخ العرب همام" الذي كان يحكم أغلب الصعيد ، حين كان أبو الدهب (سنجق) في جيش (علي بك الكبير)
واستطاع استمالة اسماعيل (ابن عم همام) إليه ، ووعده بأن يجعله حاكماً بدلاً من همام ، مما رجح كفة المماليك بقيادة أبو الدهب
واضطر همام إلي الاستسلام ، والهروب من فرشوط إلي إسنا ، وإعلان هزيمته أمام قوات علي بك الكبير بقيادة محمد بك أبو الدهب
في هذه الفترة وبالتحديد عام 1792م ضرب الطاعون أرض مصر ، وكان ذلك قبل الحملة الفرنسية علي مصر ، بقيادة نابليون بونابرت التي كانت من (1798م حتى عام 1801م).
افني خلق كثير ، وهلكت أعداد لا حصر لها، وماتت عوائل بأكملها ، وخلت بيوت وشوارع وحارات من سكانها وأشار الجبرتي أنه كان من بين ضحاياه الشيخ مرتضى الزبيدي صاحب كتاب تاج العروس .
وانتشر في عموم مصر ، واستمر يحصد الأرواح والأنفس ، حتى عام 1800 م أشتد وقعه علي صعيد مصر ، وكانت بؤرته في أسيوط ، ثم أنتشر في ولاية جرجا بكاملها التي كانت من أسوان إلي بني سويف.
حيث كان مراد بك ، يحكم جرجا ، في هذا الوقت ، وكان قد مُني بهزيمة كبيرة أمام القوات الفرنسية في معركة إمبابة ، اضطرته إلي الفرار والهروب إلي جرجا.
يقول الجبرتي : فلما ظهر الوباء انزعج الفرنساوية من ذلك ، وجردوا مجالسهم من الفرش ، وكنسوها وغسلوها ، وشرعوا في عمل كردونات حول المدن والقري ، وأعدوا أماكن العزل علي آطراف البلاد ، وأقاموا حفراً عميقة كانت تلقي فيها الجثث ، وفي داخل القرية كانت تحرق ملابس ومتعلقات المتوفي بالطاعون ، وكان يتم ترحيل جميع الفلاحين الآخرين ، ويفصلون بحسب الجنس ويوضعون في حمامات عامة لتنظيفهم ، وتطهيرهم ، ثم يودعون أماكن العزل الإجبارى.
وماتت أعداد كبيرة جداً من سكان جرجا ، وأصبحت البيوت خالية ، بها جثث الموتي ، ومن النادر أن تجد حياً واحداً فيها ، وهجرها من عاش منهم إلي الشرقية ، وأطراف الجيزة ، والبحيرة.
ومات في هذا الطاعون مراد بك عام 1803م ، متأثراً به ، ودفن في سوهاج بجوار قبر العارف بالله ، وقبره مازال موجوداً حتي الآن
وظلت جرجا خربة ، خالية من الناس ، خاوية ، تعاني من الهجر والفراغ ، حوالي عشر سنوات حتي وفد عليها الناس ، وانتهي بها الطاعون ، عام 1804م ، وأصبحت مساجدها منارة للعلم والتعلم ، مثل مسجد سيدي جلال ، والزبدة ، وأقبل عليها العلماء ، واستقطبت طلاب العلم من كل فج ، يدرسون علوم الدين ، علي يد أفاضل العلماء في كل المذاهب ، ويتعلمون علم القراءات العشر ، مما لم يكن متوفراً إلا في الجامع الأزهر في القاهرة ، وفي طنطا ، دون سائر البلاد.
وازدهرت بها التجارة ، وراجت بها حركة البيع والشراء ، وعمرت قيساريتها بالحوانيت والدكاكين ، ورست السفن علي شاطئها تحمل البضائع ، وانتشرت الأسواق بها مثل سوق الرقعة (سمي بذلك لضيق مساحته )، وسوق التكية ، وسوق الغلال ، والسويقة والدباغين ، وسوق الغزل ، وسوق الزبدة.
وعندما أصبح محمد علي باشا حاكماً على مصر عام 1805م ، اهتم بالرعاية الصحية، واستقدم أطباء أوروبيين يتقدمهم الدكتور كلوت ، وفي عام 1827م أسس كلوت بك ومحمد علي المستشفى التعليمي الأول على النمط الأوروبي في مصر وهو مستشفى قصر العيني
مما ساهم بشكل كبير في انحسار وباء الطاعون بعد وجود عناية طبية ، وأطباء مختصون.
لكن تجدر بنا الإشارة الي أن مديرية جرجا تعرضت لطاعون آخر عام 1907م ، كما جاء في مذكرات حكمدار القاهرة آنذاك (توماس راسل) ، لكنه كان بعيداً عن مدينة جرجا الحالية.
رجاء كتابة البيانات الصحيحة حتى يتسنى لنا نشر تعليقكم