" لا نُغالي إذا قلنا إن مصرٓ اتصلت ببلاد العرب منذ عهد بعيد جدًّا ، بل ذهب علماء الجيولوجيا إلى أن صحراء مصر الشرقية من وادي النيل حتى البحر الأحمر تُعٓدُّ جزءًا من بلاد العرب ، وذهبوا إلى أنه في العصور الجيولوجية القديمة كان الجزء الجنوبي الغربي من بلاد العرب يتصل بأفريقيا ، وكان البحر الأحمر عبارة عن بحيرة ، ويقول الأستاذ دي مورجان : «كانت صحراء مصر الشرقية جزءًا من بلاد العرب ، والآن تمنع منطقة سينا هذه الصحراء الشرقية من أن تنفصل نهائيًّا عن العرب.» .
وفي عصور التاريخ اتصلت مصر ببلاد العرب عن طريقين ؛ أولهما : طريق النيل؛ إذ كانت السفن تسير في النيل إلى موضع «قِفط» الحالية ، ثم تسير القوافل في طريق وادي الحمامات؛ حيث المناجم والمحاجر التي اكتشفها قدماء المصريين ، وينتهي هذا الطريق بالقرب من عيذاب والقصير ، ثم استخدم المصريون البحر الأحمر للاتصال بالمواني العربية، وأول دليل قاطع لما قام به المصريون في البحر الأحمر كان في الأسرة الخامسة حين قام الملك ساهور حوالي سنة ٢٧٤٣ ق.م برحلته إلى شواطئ البحر الأحمر وترك صُوَرًا لأسطوله وتقريرًا عن أعماله على أسوار معبده، وفي وادي الحمامات عدد كبير من النقوش يتحدث عن رحلات المصريين في البحر الأحمر .
يقول المؤرخون: إن الملاحة في البحر الأحمر لعبت دورًا هامًّا في التجارة ، ولا سيما تجارة البخور التي كان يطلبها المصريون من العرب ؛ لاستخدامها في التحنيط وفي الشعائر الدينية ، والقدماء حتى عصر هيرودوت ؛ قالوا : إن جزيرة العرب وحدها هي التي تُنْبِت العطور ، وقد حدثنا الأستاذ نللينو : «إن قدماء المصريين كانوا على اتصال دائم بجنوب بلاد العرب التي تُعدُّ أكثر البلاد إنتاجًا للبخور.»
أما الطريق الثاني الذي اتصلت مصر عن طريقه ببلاد العرب فهو طريق سيناء ، وهو طريق قديم جدًّا ، وإذا تصفحنا تاريخ مصر نجد أن المحور الأساسي الذي كانت تدور عليه سياسة الأسرة الثامنة عشرة هو تأمين البلاد من محاولة غزو القبائل السامية ، ويدلنا على ذلك غزو سوريا أيام إمنحوتب الأول ، وأن تحتموس الأول أعلن أن الفرات هو حدود مصر الشرقية ، وكان غزو البلاد الشمالية عن طريقين : طريق البحر الأبيض ، وطريق سينا البري ، وكان طريق سينا معروفًا لدى المصريين في عهد الأسرة الأولى ؛ بسبب وجود معدن النحاس ، وفي عهد الأسرة الثالثة زار زوسر سيناء ، وعمل على إخراج النحاس وأحجار الزمرد ، ونُقِشَت زيارته في وادي المنارة شمال مدينة الطور الحالية ، وفي الأسرة الرابعة غزا سنفرو شبه الجزيرة ، ونقش أخبار حملته على الأحجار ، وبنى حصونًا ليلجأ إليها عمال المناجم من هجمات قبائل العرب.
وفي الطرف الشرقي لشبه جزيرة سينا نجد تلَّ القلعة أو شربة الخادم — ولا أدري لمَ سُمِّيت كذلك — وفي قمة هذا التل نجد معبدًا مصريًّا لهاتور ، وبه عدة نقوش يرجع تاريخها إلى الأسرة الحادية عشرة ، وقد وُسِّع المعبد في أيام الأسرة الثامنة عشرة ، وبالقرب منه في وادي نصب وٓجٓد المصريون مناجم أخرى للنحاس ، وبنى المصريون هناك معابد للعمال ، كما عُثِر على كثير من النقوش المصرية شرقي شبه جزيرة سيناء ، وأكثر هذه النقوش أقامها موظفو المناجم الذين أرادوا أن تُسجَّل أسماؤهم وأعمالهم ، وذهب بعض المؤرخين إلى أن الهكسوس من قبائل عربية ، وضَرَبَ بعضُ المصريين في الصحراء العربية ؛ حتى ذهب بعض المؤرخين إلى أن المصريين أسَّسوا مستعمرة مصرية في بلاد العرب مكان يثرب؛ أي المدينة المنورة.
إذن كانت الصلة بين مصر وبلاد العرب قديمة ؛ فٓرٓضٓتْها طبيعة الجوار بين البلدان ؛ فنشأت هذه الصلات بينهما.
وبجانب هذه الصلة التجارية ، كانت هناك صلة علمية ؛ فالأستاذ M. Matter يحكي أن تاجرًا من تجار الإسكندرية في القرن السادس الميلادي يُدعَى قزمان كان محبًّا للأسفار ، جريئًا على المخاطرة ، محبًّا للاطلاع على أحوال البلدان المجاورة ؛ قام بعدة رحلات علمية إلى بلاد العرب والهند ، ووضع عدة مؤلفات عن هذه البلاد ، ولكن مؤلفاته فُقِدَت ، ولم يٓبقٓ منها إلا مقتطفات قليلة متفرقة .
ويقول مؤرخو الكنيسة المسيحية : إن الرهبنة نُقِلَت من مصر إلى بلاد العرب والشام ، ويذكرون بين الرهبان الذين كان لهم أثر واضح في نشر المسيحية ببلاد العرب ؛ الراهب هيلاريون ، وهو أحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية ، وسافر إلى غزة ، ودعا إلى الرهبنة ؛ فأجابه نحو ثلاثة آلاف رجل ، فرقهم في فلسطين ، وسوريا ، وبلاد العرب، وتُوفِّي سنة ٣٥٦م .
ويتحدث مؤرخو المسيحية عن الناسك موسى المصري الذي عُيِّن أسقفًا لمسيحيي العرب سنة ٣٧٢م ، وذهب بعضهم إلى أن نسطور صاحب المذهب النسطوري نفاه الإمبراطور ثيودوسيس الثاني إلى بترا عاصمة بلاد النبط ، ثم نقله إلى مصر ، ولكنه استطاع أن يهرب في صحراء طيبة ، ومنها إلى بلاد العرب سنة ٤٤٠م ، وقيل : إن مذهبه انتشر في مصر وبلاد العرب ، ولا سيما بعد الاضطهاد الذي لحق بأتباعه .
وفي سيرة ابن هشام أن قريشًا حين بنت الكعبة قبل الرسالة بخمس(٥) سنين ؛ استعانوا برجل قِبطي نٓجّٓار كان بمكة . وشُرّٓاحُ السِّيرة يقولون إن اسمه باقوم .
وجاء في كتب الطبقات أن جبر بن عبد الله القبطي كان أحد الصحابة الذين أخذوا عن النبي دينه ، ويقول السيوطي : إن قبط مصر يفخرون بأن منهم من صحب النبي.
وكما ذهب مصريون إلى بلاد العرب جاء عرب إلى مصر ، إذ يحدثنا صاحب كتاب الأغاني (الأصفهاني) ؛ أن بعض بطون خُزاعة خرجوا في الجاهلية إلى مصر والشام ؛ لأن بلادهم أجدبت ، وفي أوائل القرن السابع الميلادي؛ أي حوالي سنة (٦١٦م) غزا الفُرس مصر ، ويقول الأستاذ شارب : إن الجنود الذين فتح بهم (كِسرى الفرس) مصرٓ كان بعضهم من أهل الشام ، وبعضهم من العرب.
وذهبت مسز بوتشر والأستاذ ميلن في كتابه ؛ إلى أن جيش الفرس كان مستمدًّا من الشام وبلاد العرب ، فلم يلقوا مشقة في حكم مصر ؛ إذ لعل الأغنياء في مصر كان بينهم كثير من العرب ؛ فرحبوا بأقربائهم ، ولا أدي ما الذي يقصده ميلن بهذه العبارة ، ولا من أين أخذها ، وهي إن صحت تدلنا على شدة الصلة بين المصريين والعرب.
وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن تمَّ له فتح الشام ، وقبل أن يفتح العرب مصر ؛ انتقلت بعض مُتٓنٓصِّرةُ(نصارى) قبيلةغٓسّٓان (الغساسنة) برئاسة أبي ثور بن عامر بن صعصعة إلى مصر ، وأقطعهم حاكم مصر منطقة «تنيس» .
وقال المسعودي : إن عددهم عشرون ألف رجل ، ولكن بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر» أنقص عددهم إلى ألفين ، وروى ابن إسحاق الأموي في كتابه «فتوح مصر» ؛ أن رئيس الغساسنة ابن عم جٓبٓلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة ، وأنه هرب بماله وأهله بعد أن تم للعرب فتح الشام .
ولما بُعِث النبي ﷺ أرسل من قِبٓلٓهُ حاطِبُ بن أبي بٓلْتٓعٓةٓ رسولًا إلى «المُقوقِس» عظيم القِبط في مصر ؛ يدعوه إلى الإسلام ؛ فأكرم المقوقس الرسول ، وأرسل معه هدية إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - تقبَّلها شاكرًا ، وأوصى بالقبط خيرًا ، ورُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : «استوصوا بالقبط خيرًا ؛ فإن لهم ذمة ورحمًا.» .
قال ابن كثير : والمرادُ بالرّٓحِمِ ؛ أنهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليهما السلام - ؛ إذ إن أمه السيدة «هٓاجٓر» القبطية ، وهو والد «عٓرب الحِجاز - العرب العدنانية » ؛ الذين منهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وأخوال إبراهيم ابن رسول الله الذي أمه مارية القبطية - رضي الله عنهما - مِنْ «سناكورة انصنا» .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : «أهل مصر أكرم الأعاجم كلها ، وأسمحهم يدًا ، وأفضلهم عنصرًا ، وأقربهم رحمًا بالعرب عامة وبقريش خاصة.» .
وكان بين الأقباط مَن صَحِب رسول الله -ﷺ - ، مثل ؛ جبر بن عبد الله القبطي .وقد وروى السيوطي عن سعيد بن عفير أنه قال : «والقبط تفخر بأن منهم من صَحِب النبي - ﷺ - .».
وجاءٓ ذِكْرُ مصرٓ في القرآن الكريم صراحة ، أو كناية في أكثر من عشرين موضعًا ، ولم يُذْكَر غير «مصر» من البلدان بمثل هذا العدد ، فلا غٓرٓوٓ (شك) إذن أن نرى العرب يٓعرفون شيئًا عن مصر ؛ فراحوا يتحدثون عنها ، ويخترعون الأحاديث الكثيرة عن عجائبها ، كما طمع العرب في ثروة مصر ؛ لهذا بعد أن تمَّ لهم فتح الشام جاء عمرو بن العاص إلى مصر ومعه عٓرب من قبائل مختلفة ، يقال إن أكثرهم من «عك» ، و«لٓخْم» ، ويقال أيضًا إن عددهم لم يزدْ على أربعة آلاف(٤٠٠٠) نٓفْس ، ثم أتبعه الزبير بن العوام بمدد قُدِّر باثني عشر ألفًا (١٢٠٠٠) ؛ فلما تمَّ لهم فتح مصر وبُنِي مسجد الفسطاط (أول مسجد بني في مصر قبل بناء القاهرة بأكثر من (٣٠٠) عام ) ؛ أمر عمرو جنوده أن يختطوا حول المسجد الجامع كُلٌّ بحسب قبيلته ، فمن القبائل التي اختطت بالفسطاط وأقامت بها : مٓهرة ، وتجيب ، ولخم ، وغسان وغافق. ومن بني غافق بطن يُعرَفون «بالقرافة» سكنوا سفح جبل «المُقٓطٓم» ، ثم تركوا أماكنهم ، وتفرقوا في البلاد المصرية ، وصار مكانهم مقبرة المسلمين فسمِّيت المقبرة في مصر «بالقرافة» ؛ نسبةً إلى هؤلاء القوم.
وكان مع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - جماعة «العُتقاء» ؛ وهم جِماعٌ من القبائل عُرِفوا «بالصعاليك» ؛ كانوا يقطعون الطريق أيام النبي -ﷺ- ؛ فبعث في طلبهم ، وأُُتِي بهم أسرى ؛ فأعتقهمو، وكان بينهم كثير من طوائف قبيلتٓي الأزد وفٓهم .
كذلك شهد فتح مصر واختلط بالفسطاط قوم من الفُرس ؛ هم أبناء «جندباذان» ؛ عامل كِسرى على اليمن قبل الإسلام ، وأسلموا ، ورغبوا في الجهاد ، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر .
كما كان في جيش الفتح جماعة من الشام عُرِفوا في مصر «بالحٓمراء» ؛ لنزول الروم بينهم ، ولكنهم عرب من قبيلة «بَلي القضاعية» ، وقبائل ؛فٓهْم ، وعدوان ، وبعض الأزْد، وكانوا يسكنون قٓيساريّٓة وما حولها ، ورغبوا في الإسلام قبل واقعة «اليرموك» ، وساروا مع عمرو إلى مصر ، وسُمُّوا «بالحمراء» ؛ لأن العرب اعتادوا أن يسموا الموالي من الروم بهذا الاسم .
اشترك في فتح مصر أيضًا عدد من قبائل مختلفة ؛ من قريش ، والأنصار (الأوس والخزرج اليمانيين) ، وخزاعة ، ومزينة وأشْجٓع ، وجُهينة ، وثقيف ، ودٓوْس ، وليث، عُرِفوا في مصر باسم «أهل الراية» ، ونُسِبَت الخطة إليهم ؛ لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد من الديوان .
أما هٓمٓدان ؛ فلم يٓقبلوا أن يسكنوا «الفُسْطاط « أول مدينة بناها العرب بداية فتح مصر ، وهي تعني الخيمة» ، واختاروا «الجيزة التي بنيت عام ٢٣ ه على يد العرب بالقرب من الاهرامات» لهم مقرًّا ، وحاول عمرو أن يرجعهم إلى الفُسطاط فلم يستطعْ ، فاضْطُر إلى أن يخاطب الخليفة في شأنهم ، فكتب الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - إليه : «كيف رضيتٓ أن تفرِّق أصحابك ، ولم يكن ينبغي لك أن ترضى لأحد من أصحابك أن يكون بينك وبينهم بحرٌ(يعني نهر النيل» ؛ لا تدري ما يفاجئهم ، فلعلك لا تقدر على غياثهم حين ينزل بهم ما تكره ، فاجْمعهم إليك ، فإن أبَوا إليك وأَعْجَبَهم موضعُهم فابن عليه من فَيْء المسلمين حِصنًا .» ؛ فبنى لهم عمرو بن العاص الحِصن بالجيزة ، وسكن مع همدان نافعٌ ، وذو أصْبٓح ، وطائفةٌ من الحجر ، وبرزوا إلى أرض الحرث والزرع ؛ «أي امتهنوا الزراعة والحراثة » .
وبعد أن تمَّ فتح مصر رأينا الخليفة عمر يكتب إلى عامل الشام أن يُسيِّر ثلث من بالشام من قُضاعة إلى مصر ، فنظر الوالي فإذا «بِٓلي» تعادل ثلث قُضاعة ؛ فسيّٓرهم إليها ؛ فانتشروا في البلاد ، ولا سيما حول «إخميم» وما يليها ، وتفرقت « قبيلة بِٓلي» بأرض مصر ، ثم اتفقت هي و«جُهٓينة» فصار لها من الشرق من «عٓقبة قاو الخٓراب» إلى «عيذاب» ؛ (بالقرب من القصير) .
وكان عمرو بن الخطاب يبعث كل عام غٓازية « جماعة من المقاتلين» من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية، وقسَّم عمرو بن العاص من معه ، فكان يرسل ربع الناس يقيمون ستة أشهر في رباط الإسكندرية ، والربع في السواحل ، والنصف يقيمون معه ، ولم يختلط العرب بالإسكندرية كما اختلطوا في الفُسطاط ، بل كان بها «أخائِذ» ؛ مٓنْ أخذ منزلًا نزل فيه هو وبنو أبيه ، فلما استقامت لهم البلاد قطعٓ عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية رُبعٓ الناس ، وكانت قبائل «لٓخْم» أعزُ من ناحية الإسكندرية.
أخذ العرب يٓفِدون على مصر أفواجًا ؛ حتى غصَّت بهم البلاد ، وكان بين القبائل فضاء واسع من القبيل إلى القبيل ، فلما كثرت الأمداد في زمان عثمان بن عفان وما بٓعُدُو ، وكٓثُرٓ الناس ، وسَّع كلُّ قوم لبني أبيهم حتى كثر البنيان والْتَأم (التصقٓ) .
ولما وٓلَّي معاوية بن أبي سفيان (أول خليفة أموي) زيادٓ بن أبيه (أخا معاوية) على البصرة ، غرّٓب جماعة من «الأزد» إلى مصر عام ثلاث وخمسين (٥٣) هجرية ؛ فنزل منهم نحو مائة وثلاثين .
كما كتب معاوية إلى علقمة القطيفي عامل الإسكندرية : « إني قد أمددتك بعشرة آلاف من أهل الشام وبخمسة آلاف من أهل المدينة.» ؛ فكان في الإسكندرية سبعة وعشرون ألفًا ، كما كان بمصر في خلافة معاوية أربعون ألفًا .
وفي إمارة الوليد بن رفاعة على مصر عام تسع ومائة (١٠٩ه) ؛ نزل بنو سليم (وهم من قيس) ، ولم يكن بأرض مصر أحدٌ من قبائل قيس العدنانية قبل ذلك ، إلا من كان من «عٓدوان» الذين أنزلهم عبد الله بن الحبحاب والي الخٓراج في خلافة هشام بن عبد الملك ، وكان عدد بني سليم ثلاثة آلاف رجل ، فأنزلهم الحوف الشرقي ، وأمرهم بالزرع « بالزراعة» ؛ فاشتروا إبلًا ، وكانوا يحملون الطعام إلى «القلزم ؛ البحر الأحمر» ؛ فأَثْرَوا ؛ «صاروا أثرياء» ، ولما بلغ ذلك عامة قومهم تحمَّل إليهم خمسمائة (٥٠٠) أهل بيت من البادية ، فأقاموا سنةً ؛ فأتاهم ألف وخمسمائة (١٥٠٠) بيت من قيس ، حتى إذا كان زمن مروان بن محمد « آخر خليفة أموي صار بمصر ثلاثة آلاف (٣٠٠٠) أهل بيت ، ثم زِيدوا إلى خمسة آلاف ومائتين (٥٢٠٠)، ولكثرة القيسية بمصر ، وتجمعهم في «الحٓوف» ، وثرائهم العظيم ؛ كانوا مصدر فتن وقلاقل ، وكثيرًا ما حاربوا الوُلاة ، وكان يجاورهم في الحٓوف جماعة من ؛ صلاح ، وطارق وهم من قبائل جُذام ؛ ولذلك قامت الحروب الكثيرة بين القيسية واليمنية ، شأنهما في ذلك شأن هاتين الطائفتين في كل الأقطار الإسلامية.
وسكن بنو عقبة وهم من جذام أيضًا ما بين أيلة « العقبة» وحوف مصر . كما ذهب قوم من جذام ولخم إلى الإسكندرية ، وكانت لهم هناك أيام معلومة ووقائع مشهورة ، ولا سيما في فتنة ابن الجروي .
وكان كل أمير يتولى بمصر يأتي إليها ومعه عدد من الجند العرب ؛ كي يتقوَّى بهم ، ويقمع (يقضي) بهم الفتن التي تنجم في البلاد ؛ فقد قيل إن «حوثرة الباهلي ؛ من قبيلة باهِلٓة » سار إلى مصر في آلاف من العرب ، ولا أدري تمامًا من أي القبائل كان هؤلاء القوم ، وأكبر الظن أنهم من القيسية عشيرة الوالي .
وبصعيد مصر أولاد الكنز ؛ أصلهم من قبائل ربيعة ، وكانوا ينزلون اليمامة « في نجد الرياض حاليا » ؛ فقدموا أرض مصر في خلافة المتوكل عام نيف وأربعين ومائتين (٢٤٠ ه) في عدد كثير ، وانتشروا في البلاد ؛ فنزلت طائفة منهم بأعالي الصعيد ، وسكنوا بيوت الشعر في براريها الجنوبية وأوديتها ، وكانت قبائل «البِجٓة الأفريقية» تشن الغارات على القرى الشرقية في كل حين ، وخربوا كثيرًا من أملاك الأهالي ، فقام الربعيون « قبيلة ربيعة » بمنعهم حتى كفوهم ، ثم لم يلبثوا أن تزوجوا منهم ، وصارت لهم مرافق في بلاد البٓجٓة ، واستولوا على مناجم الذهب بها ؛ فكثرت بذلك أموالهم .
وانتقلت بطون من قريش إلى «الأشمونيين» ، وكان بينهم بنو جعفر بن أبي طالب المعروف بالطيّٓار - رضي الله عنه - ، وبنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان ، وتحالفوا جميعًا ، وعاشوا سالمين . والجعافرة اليوم ينسبون إلى جعفر هذا .
يقول المقريزي : «وجُهينة أكثر عرب مصر.» . وهؤلاء كانوا يسكنون حول أسيوط وما بعدها في الصعيد المصري ، وقدوقع بينهم وبين بطون« بلي » من الخُطوب « المنازعات» ما أدى إلى دوام الفتنة بينهما .
وفي الفيوم نزل بنو كلاب . ومن مُنيٓةِ غمر « مدينة المِنيا في الصعيد» إلى «زفيتا » ؛ سكن سعود جذام ، وأكثرهم مشايخ البلاد وخفراؤها ، ولهم مزارع وفسادهم كثير .
وانتقلت طوائف من فزارة إلى «الغربية» , و«قٓلْيُوب» . و في «الدقهلية» ؛ سكن عرب ينتسبون إلى قريش.
وسكن حول «تنيس» ، و«دمياط» قوم ينتسبون إلى نصر بن معاوية ؛ وهم من هوازن ، وكان لهم شوكة شديدة بأرض مصر، وكثروا حتى مَلؤوا أسفل الأرض ، وغلبوا عليها ، وقويتْ شوكتهم إلى أن عَلِيَهم(غلبهم) قبيلة من البٓربر تعرف «بلوُاتٓة»؛ تزعم أنها من قيس ، والصحيح أنها أمازيغية بربرية جاءت من المغرب العربي ؛ فأجْلٓت بني نصر ، وأسكنٓتٓها «الجِدار» ، فصاروا أهل قرى في مكان عُرِف بهم وسط النيل وهو «جزيرة بني نصر» .
ثم تعاقب على مصر طوائف من العرب في العصور التي تلت عصرنا الذي نؤرخه ، ولعل أكثرها كان في القرن الخامس الهجري ؛ إذ أرسل الوزير الناصر اليازوري عام اثنين وأربعين وأربعمائة (٤٤٢ ه) فاستدعى «سُنْبُسٓ من فلسطين وأقطعهم «البِحِيرة» التي كانت منازل «بني قُرّٓة» ؛ فعظُم أمرهم أيام الفاطميين ، ولكنهم تفرقوا في «الغربية» ، وذُلُّوا بعد واقعة «ديروط» عام إحدى وخمسين وستمائة (٦٥١ه) ؛ أيام عز الدين التركماني ، وكان يجاورهم فرقة من كِنانة بن خزيمة ، وفرقة من بني عٓدِي بن كعب رهط(قوم)عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ونزل العُمٓريون في «البُرُلُّس» ، والكنانيون بقرب دمياط .
مما تقدم ؛ نستطيع أن نقول : إن أكثر عرب مصر من اليمنين ، وقد اختطوا دورهم في الفُسطاط وغيرها ، ورٓابطَ بعضهم في المدن الكبيرة التي هي ثغور مصر التي كان يُخشَى عليها من مهاجمة الأعداء ، وكان بمصر عدة من الثُغور المُعٓدٓةُ للرِباط في سبيل الله تعالى ، وهي ؛ البرلس ، ورشيد والإسكندرية ، وذات الحمام ، والبحيرة ، واخنا ، ودمياط ، وشطا ، وتنيس ، والأشتوم ، والفٓرما (تقع على الطريق الواصل من العريش إلى الشرقية) ، والواردة ، والعريش ، وأسوان ، وقُوص ، والواحات ؛ فيٓغزِوا الروم والفرنج والبربر والنوبة والحبشة والسودان من هذه الثغور .
كما كان لبعض العرب إقطاعات بمصر ؛ كالذي قيل : إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقطعٓ (منحٓ) ابن سندر «مُنْيٓة الأصبغ»؛ فحاز منها لنفسه ألف (١٠٠٠) فدان ، فلم تزل له حتى مات ، فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان ؛ فسميت باسمه.
وكانت للعرب أيام خاصة في الربيع ينتقلون فيها من مرابطهم يجوسون خلال قرى الريف ؛ فقد جاء في خُطبةٍ لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - : « فٓحُي لكم على بركة الله ريفكم ؛ فنالوا من خٓيرِه ، ولبنِه ، وخِرافه ، وصيده ، وأرْبِعُوا خيلٓكم ، وأسمِنوها ، وصونوها ، وأكرموها ؛ فإنها جُنَّتكم (تحكيم) من عدوكم ، وبها مغانمكم وأنفالكم ، واستوصوا بمن جاورتموه من القِبط خيرًا …. إلى أن قال : فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم ، فإذا يٓبٓس العُود( الزرع) ، وسخن العمود ، وكثر الذباب ، وحمض اللبن ، وانقطع الورد من الشجر ؛ فحي إلى فسطاطكم على بركة الله.» .
فإن صحت نسبة هذا القول إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه - ؛ فإنا نتبين أن العرب كانوا يخرجون من رباطهم ، ويتصلون بالمصريين في قُراهم ومدنهم ، ويتحدثون إليهم ويتساومون ؛ فمن المصريين من أُعْجِب بالعرب ودينهم فاعتنقه ، ومنهم من دُفِع إلى اعتناقه اضطرارًا ؛ لعجزه عن أداء الجزية ، أو لأغراض أخرى .
كان عمرو - رضي الله عنه - يُعيِّن القرى التي تذهب إليها كل قبيلة ؛ فكان يكتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا .
إذن في ابتداء الفتح كانت إقامة العرب في الفسطاط والثغور ، ولم يكن لهم مُقام بالقرى ، وكان القِبطُ (أهل مصر الأصليون) متمكنين في بلادهم ؛ لا يتدخل في شئونهم عربي ، على أن المسلمين في المائة الثانية انتشروا في قرى مصر ونواحيها ، وما بٓرٓحٓ (زالٓ) القبط يثورون على المسلمين ، إلى أن جاء الخليفة العباسي المأمون سنة سبع عشرة ومائتين (٢١٧ ه) ؛ فأسرف في تأديبهم ؛ حتى أخضعهم له ، وغلب العرب على أماكن المصريين في القرى، وحوَّلوا بعض الكنائس إلى مساجد ، فاضْطُر المصريون إلى أن يتعلموا لغة الفاتحين ، وإلى أن يعتنق أكثرهم دين الإسلام ، وانصهر الكثير منهم في القبائل العربية.
منقول عن صفحة «حمدي الدالي المصري» .
الكاتب الباحث الاجتماعي الأردني:
د. بشار ابونصير المصاروة .
مأدبا - الأردن.
الثلاثاء ١٦-٨-٢٠٢٢م.
تعليقات
إرسال تعليق
رجاء كتابة البيانات الصحيحة حتى يتسنى لنا نشر تعليقكم